] خــــادم القرن الحادي والعشرين [
كنتُ مستغرقة في النوم و أحلم أنني أقف أمام محيط واسع
أحدق بالأمواج الا متناهية وهي تلامس قدمي .. كنتُ مستمتعة بالحلم تماماً
ولكن في مكان ما من شعوري الداخلي بدأت أستفيق شيئاً فشيناً
أدركت حينها أنه موعد إستيقاظي..
أبقيت عينيّ مقفلتين و أنا أصغي للأصوات المألوفة التي إعتدتُ
سماعها كل صباح .. بدأ الأمر بطرقة ناعمة على باب غرفتي متبوعة
بصوت مزلاج الباب وهو يفتح بهدوء ... صوت حلقات الستائر وهي تجري
على سكّتها .. عبست في نومي و أنا أشعر بضوء النهار القوي .. كان
شيئاً مزعجاً أن تشعر بتلك الأشعة الملتهبة ُتبدد إسترخاء جفنيك في الظلام.
عمدتُ إلى تغير وضعية إستلقائي و تشبثتُ بملاءة السرير .. كنت أستطيع
أن أحظى ببضع دقائق إضافية من النوم حتى ينهيها وقعُ أقدام رشيقة منضبطة
تسير بإتجاه سريري ، يتلوه صوت خادمي الخاص وهو يلقي عليّ التحية الصباحية :
- صــــــــباح الخـــير .. أوجو-تشان
إنتصبت جالسة في سريري و أنا أفرك عيني من أثر النوم والتثاؤب يغالبني
أنزلت قدماي على الأرض و ألقيت نظرة متفحصة على خادمي الخاص ..
كان يقف على مقربة من السرير ممسكاً بمنشفة نظيفة سيسلمها إلّي بعد قليل
لقد كان شاباً طويلاً جداً .. أرفع عنقي دوماً لأتمكن من التحديق في وجهه .. له شعر
أسود مبعثر على وجنتيه .. أما عيناه اللتان كانتا مثبتتان علّي فقد صبغتا بلون
الدم .. لعينيه لون غريب يثير الرهبة في نفسي .. لكنني لا أنكر أن لهما سحرٌ فريد.
كانت تزين شفتيه إبتسامة ودودة تحييني بإحترام ، نقلت نظري إلى ما كان
يرتديه في ذلك الصباح الباكر .. بدلة رسمية سوداء ذات تطريز كلاسيكي
لا أعلم لماذا يصرُ على أن يكون متأنقاً دوماً ؟
رددت تحيته أخيراً و أنا أحاول منع نفسي من التثاؤب :
- صباح الخيـــــر يا سيـــباستيان .
إبتسم بسرور بينما حرك الهواء القادم من النافذة المفتوحة خصلات شعره
نظر بإتجاه النافذة و قال بحماسة :
- جو اليوم رائع بالفعل ... مشمسٌ و نفحات الهواء منعشة .
وافقته بإيماءة بسيطة و فكرت في نفسي بأن سيباستيان يعتبر
جميع حالات الطقس " جو رائع " فمثلاً حين تكون السماء ملبدة بالغيوم السوداء
و الجو يوحي بالكآبة ، يقول لي بثقة :
" سيكون رائعاً لو تمكنتِ من إستخدام مظلتكِ الجديدة .. أوجو-تشان "
يخيلُ إلّي أحياناً أنه يقول ذلك ليستحثني على النهوض وليس لأنه مولعُ
بتقلبات الظروف المناخية . مــد يده نحوي ليساعدني على الوقوف
أمسكتُ بيده ذات القفاز الجلدي الأبيض ، ثم إستلمتُ المنشفة التي
كان يمسك بها بيده الأخرى و سرت بإتجاه الحمام .. الذي كان كل شيء بداخله منظماً
ومرتباً منذ الليلة الماضية ، مساحيق تنظيف الوجه بمختلف أنواعها بالقرب
من فرشاة الاسنان
كانت مصفوفة بعناية تسهل علي إنتقاء أي واحدة منها و إستعمالها ..
ثم كانت هناك ملابس المدرسة معلقة بالقرب من المغسلة .. كانت
نظيفة و تفوح منها رائحة الياسمين .. إرتديت ملابسي بسرعة
و بدأت بتصفيف شعري ، طلب مني سباستيان أكثر من مرة أن
أوكل إليه هذه المهمة ، لكنني كنت أجد تصفيف شعري بنفسي متعة لن أتخلى عنها
نظرت إلى إنعكاسي في المرآة وأنا أتنهد بعمق ، عندي
شعرٌ جميل ، إنه أسود فاحم يصل إلى كتفيَ .. ربطته على شكل ذيل
الحصان بشريطة أرجوانية أنيقة جهزها سيباستيان لهذا الغرض بالذات
تفحصت النتيجة و كنت راضية بها .. حدقت في ملامحي و أنا
أضع خصلة من الشعر خلف أذني .. هل أنا جميلة ؟ لا أستطيع
القول إنني كذلك ! لم أكن ممشوقة القوام كعارضات الأزياء
و لا أمتلك شعراً أشقر كالحسناوات الاتي يمثلن في الأفلام
كنت نحيلة و ضئيلة الطول لا يميز ملامحي سوى لون عيني ..
لي عينين خضراوين داكنتين .. كانت أمي تقول أنني
ورثت هذا اللون المميز عن جدتها .. أما أبي فوصفني يوماً
بأنني أمتلكُ عيني هرة !
و في لحظة تفكيري بالهررة سمعت صوت مواء خارج باب الحمام
لقد كانت شيرو .. قطتي البيضاء اللطيفة .
كانت في إستقبالي خارج الباب و أخذت تلهو عند قدمي
إبتسمت بسرور و سألت سيباستيان الذي كان يقف على
مقربة منا :
- هل قدمت الطعام لشيرو ؟
- بالتأكيد .. إنها هنا لأنها أرادت أن تلقي التحية عليكِ ..
كان يحدق بمودة بإتجاه شيرو .. كان سيباستيان مولعاً بالقطط .
تنهد فجأة فنقلتُ نظري إليه وسمعته يقول بضيق:
- آه .. أوجو- تشان ..
رمشتُ بتعجب و أنا أنظر إليه يقترب مني بخطوات سريعة
ثم إنحنى قليلاً و أخذ يعدل من ربط الشريطة الحمراء التي تزين ياقة
قميص المدرسة الذي كنت أرتديه .. شعرت بالخجل من نفسي
إذ أنني عجزت عن القيام بشيء بسيط كهذا دون مساعدة منه.
قال وهو لايزال منهمكاً في ربط الشريطة حول عنقي :
- قمت بإضافة قائمة الأغنيات التي طلبتها على مشغل
الموسيقى الخاص بكِ.. و وضعته في حقيبة المدرسة..
- هـ .. هذا رائع !
لقد طلبت منه ذلك قبل أن أخلد للنوم في الليلة الماضية
كان يفاجئني دوماً عندما ينفذ ما أطلبه منه في زمنِ قياسي ..
خرجت من غرفتي و سيباستيان يتبعني بهدوء ، نزلت عتبات الدرج
و أنا أستمع لما كان يقوله دون تركيز :
- طعام الإفطار مكونٌ من عجة البيض على الطريقة الفرنسية
إلى جانبِ الخبز المحمص بمربى التوت المعدِ منزلياً
و طبق من سلطة الفواكه و ...
لم أستمع جيداً لبقية شرحه المطول عن مكونات الإفطار الفاخر الذي قام بإعداده .
سبقني عند آخر عتبات الدرج ثم إنحنى لي بلباقة وهو يقول :
- و يسعدني أن أسأل سيدتي عما ترغب في تناوله على الغداء ..
نظرت إليه وقد قطبت حاجبيّ في محاولة للتفكير بشي أرغب
في تناوله .. لم أكن من الأشخاص الذي ينهضون صباحاً بشهية
مفتوحة .. إستسلمت أخيراً فلم يخطر ببالي أي إقتراح...
- يمكنكَ إعداد ما تراه مناسباً .
إبتسم وهو يضع يده على صدره في إشاره على أنه
سيتحمل المسؤولية ..
- أرجوا أن يلاقي إختياري إستحسانك و رضاكِ..
إندفعت ناحية غرفة المعيشة و رائحة الطعام تملأ المكان
كان الإفطار موضوعاً على الطاولة و مرتباً بدقه تلفت الأنظار
نقلت نظري ناحية أبي الذي كان يجلس إلى الطاولة دافناً
رأسه في الصحيفة .. لم ينتبه على قدومي فحييته قائلة :
- صباح الخير يا أبي !
أبعد الصحيفة عن وجهه و حياني بإبتسامة لطيفة ثم قال :
- لقد تأخرتِ .. لم يعد بوسعي إنتظار الطعام أكثر .
تنهدت بضيق و أنا أشاهد الأطباق الكثيرة التي صُفت أمام
والدي و لم يلمس أياً منها .
كان هناك خصلة لا أحبها في تصرفات سباستيان
فهو يرفض أن يقدم الطعام إلى أبي قبل وصولي
و لا ينفذ أي أمر يصدر عن شخص غيري .. حتى
لو كان أبي ! إنه شيء يدفعني إلى الشعور بالغضب منه
ولكنني حين أفكر بالأمر ملياً أجد أن لتصرفه بتلك الطريقة
سبباً مقنعاً جداً . لا بأس إذن .. ما دام ينفذ كل أوامري
فسأجبره على العناية بوالدي و تنفيذ رغباته ..
إستدرت للخلف لأتمكن من النظر إليه .. حدقت به بنظرات
غاضبة و قلت له معاتبة :
- سيباستيان ! عليك أن تقدم الطعام إلى أبي قبل كل شيء
هذا ما ستفعله من الآن فصاعداً إلى جانب تنفيذ كل طلباته ..
أغمض سيباستيان عينيه في أسى وهو يخفض رأسه
كمن يشعر بالذنب ثم قال بصوت خنوع :
- كما تأمرين .. أستمحيكِ العذر أوجو-تشان
تنهدت بإرتياح و قلت له مبتسمة :
- لم أعد غاضبة منك ..
دفع الكرسي بهدوء خلفي و أنا أجلس للطاولة مقابل أبي
الذي ما لبثت أن إنحى للأمام وهمس لي :
- رينــا .. لم يكن هناك داعٍ لتطلبي منه ذلك .
أجبته و أنا أنظر ناحية سيباستيان الذي كان يسكب الشاي
الساخن في الأكواب البيضاء و يضع إحداها أمام والدي :
- لا تشغل بالك يا أبي ..
قلتها و أنا أفكر بأنني سأتمكن من النوم مدة أطول حين
يكون سيباستيان مشغولاً في تقديم الإفطار لهُ ..
تناولت الإفطار الشهي و تبادلت الحديث في أمور مختلفة
مع والدي .. ثم جاء صوت سيباستيان منبهاً أن وقت
المغادرة قد حان .. كان يمسك بساعة فضية تتدلى منها
سلسلة تبقيها معلقة بجيب سترته .. نهضت متوجهةً معه ناحية الباب
و رأيته حين إرتدى معطفاً اسوداً فوق بدلته الرسمية ثم إلتقط بخفة
حقيبتي المدرسية ..
خرج أبي خلفنا بعد وقت قصير ليذهب إلى العمل..
كانت سيارة فخمة سوداء اللون تقف أمام منزلنا المتواضع
تقدم سيباستيان بإتجاهها و فتح الباب الخلفي لأصعد إليها
ألتفتُ ناحية أبي الذي كان ينتظر وصول الحافلة لتقله إلى
مكان عمله .. كان يعمل موظفاً في مكتب للعقارات ومرتبه
لا يسمح له بإمتلاك وسيلة نقل خاصة به ... لذا لم يكن هو
صاحب السيارة السوداء التي صعدتُ إليها .. إنها ملك لشخص آخر...
تحدثتُ إليه من خلال نافذة السيارة :
- أراك في المساء ..
لوح بيده ناحيتي ثم تأهب للمغادرة حين لمح الحافلة تقترب من بعيد.
صعد سيباستيان خلف مقود القيادة و عدل من وضعية مرآة السائق
أدار المفتاح فسمعتُ صوت المحرك وهو يعمل .. ثم إنطلقنا بإتجاه المدرسة.
كانت مدرستي تبعد مسافة عشر دقائق فقط عن منزلنا .. و بوسعي
ان أذهب إليها سيراً على الاقدام ، ولكن كان لخادمي الخاص رأي آخر
فهو يرى أن من الأفضل أن أستقل السيارة فهي مزودة بوسائل مفيدة
لن أجدها في الطريق .. كالمكيف في جو الصيف الحار و المدفأة حين
يشتد البرد .. و بما أن جو اليوم لطيف للغاية فقد فتح سيباستيان النوافذ
سامحاً للهواء العليل بالدخول .. أصغيت و أنا أسند ظهري على المقعد المريح
للموسيقى الهادئة القادمة من المذياع .. حقاً إن سيباستيان يعرف كيف
يجعلني مسترخية تماماً .
توقفت السيارة أمام بوابة المدرسة الضخمة ، كان التلاميذ يتوافدون من
كل إتجاه و قد إلتفت بعضهم ناحية السيارة بإستغراب طفيف ، على الرغم
من أنها ليست المرة الأولى التي يرون فيها خادمي الخاص وهو يفتح لي الباب
الخلفي ويسلمني حقيبي إلا أنهم لا يزالوا يعتبرون الأمر خارجاً عن المألوف
ولا ألومهم في هذا !
إنحنى سيباستيان للمرة الأخيرة وهو يتمنى لي يوماً سعيداً
و بقي واقفاً ينظر إليّ حتى أصبحت داخل أسوار المدرسة،
سمعت حينها صوت السيارة وهي تسير مبتعدة .
كان يوماً دراسياً عادياً لا شي مميز فيه ، خُيل إليّ أن بعض
الحصص أخذت وقتاً أطول من المعتاد ، وقد أشعرني ذلك بالنعاس.
سرحت في حصة الجغرافية و أنا أنظر خلال النافذة القريبة من
مقعدي ، كنت مجرد فتاة عادية ترتادُ المدرسة الثانوية ، لاشيء
يميزني على أي فتاة في مثل سني ، لكن كان هناك شخص يعاملني
معاملة خاصة و كأنني إبنة الإمبراطور ! سيباستيان هو خادمي الخاص كما
يحب أن يرمز لنفسه ، وهو رجل متحمس ومجتهد ورائع في كل شيء !
لا أعرف أحداً بمثل كفاءته في العمل ، يصر على أن يكون كل ما يقوم
به متقنناً و مثالياً ،أنا واثقة من أنه لا يوجد شيء في العالم يعجز
سيباستيان عن القيام به .. بوسعي أن أتخيل ما يقوم به من أعمال حين
أكون في المدرسة، لا بد أنه يبدأ بغرفتي .. يعيد ترتيب السرير و يغيّر
الملاءة و غطاء الوسائد .. لا يدعني أنام على نفس الملاءة دون أن يغسلها
و يعطرها بعناية .. و سيضع على الطاولة القريبة من سريري بعض الازهار
الندية التي يشتريها كل يوم بعد أن يوصلني إلى المدرسة .
ثم سينتقل لترتيب باقي الغرف ،أتخيل كيف يمسك بالمكنسة
الكهربائية و يكنس المكان ، بعدها سيخرج الملابس من الغسالة و سيعلقها
لتجف تحت الشمس لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً فمنزلنا صغير و أعيش
فيه مع أبي فقط .
إنتهى الدوام المدرسي و وجدت سيباستيان في إستقبالي فور خروجي
من باب المدرسة ، إستلم الحقيبة مني و هو يرحب بي بسرور..
لم يتأخر يوماً عن موعد إنصرافي و كان هذا الشيء يسعدني كثيراً.
كان أول ما قمت به فور عودتي للمنزل هو التمتع بحمام دافىء
ثم تناولت الغداء الذي أعده سيباستيان و قد إختار أن يقدم
لي طبق السوشي المحلي ، راقني ذلك فأنا لم أتناول
سوى الأطباق العالمية في الآونة الأخيرة فسيباستيان يحب
أن يستعرض مهارته في الطهي و أقر بأنه طاهٍ من الطراز الرفيع .
تناولت الشاي في فترة ما بعد الظهيرة وقد جاءني سيباستيان
وهو يحمل طبقاً فضياً و أعلن بفخر قائلاً :
- أعددتُ لكِ كعكة الصنوبرالإيرلندية .
في المساء قمت بحل الفروض المدرسية بمساعدة
سيباستيان فهو بارع في كل المواد الدراسية وكانت مساعدة
لي مفيدة جداً حتى أنني أستوعب دروسي معه أكثر من إستيعابي
لها في المدرسة .
قررت الخلود للنوم مبكراً في تلك الليلة و لم أرغب في تناول العشاء
لأنني أكلت الكثير من تلك الكعكة اللذيذة ، طلبت من سيباستيان أن
يقدم العشاء لوالدي حين يعود ثم تمددت على فراشي و سمعت
صوته وهو يتمنى لي ليلة سعيدة قبل أن يطفىء المصباح و
يخرج من الغرفة بهدوء .
فكرت و أنا أحدق بالسقف أن خدمات سيباستيان ليست
مجانية و أنه بالتاكيد سيتقاضى أجره في النهاية ... سرت رعشة
في جسدي حين تذكرت ذلك .. سحبت غطاء السرير و أخفيت
رأسي تحته وقررت عدم التفكير في الأمر والخلود للنوم.
