صعدتُ عتبات الدرج بخطى مسرعة ، أمسك علبة غدائي الزهرية وتتلاحق أنفاسي المتصاعدة ، علمتُ أنه موجود في سطح المدرسة ، إنه يقضي فترة إستراحة الغداء هناك ، لذا رغبتُ في مفاجأته بزيارتي …
أدرتُ مقبض الباب الحديدي المؤدي إلى السطح ، أزعجت أشعة الشمس المبهرة عينيّ فرفعتُ يدي لأحجبها ، وصلت إلى مسامعي أصوات قهقهات خافته ، سرتُ بهدوء و أنا أديرُ عيني النصف مغمضتين لأتفحص المكان …
رأيتُ فتاتين في نفس عمري تجلسان على الارض ، و قد ميزتُ إحداهما ، لقد كانت زميلتي في الصف ، ولكن ما شد إنتباهي هو من كانمستلقٍ في حضنهاشعرتُ بأن قلبي قد تحطى إحدى دقاته، و رأسي غدا ثقيلا للغاية و كأن أحد ما قد ألقى بصخرة ثقيلة عليه ، رمشتُ عدة مرات لعل ما شاهدته يكون مجرد تشابه و لكن بلا ريب إنه هو …..
-إيزايا-كون
كان صوتي أشبه بالهمس و أنا انطق أسمه مختلطاً بالدهشة التي اصابتني ، الآن وقد أمعنتُ النظر ، كان مستلقياً على الأرض و رأسه مسترخٍ على حجرهاإنه نائم .. هذا ما خطر لي ، و أنا ارى عينيه مغمضتين ووجه يبدو هادئاً و قد إختفت من فوق شفتيه تلك الإبتسامة المراوغة التي أعجز عن فهمها.
إنتبهت الفتاة لوجودي ، لوحت لي بيديها وقالت هامسة :
- لم انت وافقه هناك ؟ تعالي و شاركينا الغداء ..
إرتبكتولم ادري بما اجيبها ، الحقيقة انني رغبتُ في المغادرة و لكن سأبدو مغفلة إن هربت من أمامهم لمجرد رؤيتي له برفقتهن ، على الرغم من إنزعاجي حركتُ قدماي على مضض و جلستٌُ على كرسي خشبي بالقرب منهم، كنت أدير ظهري بإتجاههم ، فتحتُ علبة غدائي و بدأت بتناول الطعام بصمت و شعور غير مريح يستحوذ على تفكيري …
-ألا يبدو مسالماً وهو نائم ؟
قالت الفتاة الآخرى فجأة ثم أضافت :
- إنه كثير الشجار مع ذلك الفتى ، لا يمر يوم دون أن يتشاجرا ولكن أنتظري إليه الآن ! إنه اشبه بطفل نائم !
قهقت زميلتي في الصف و لمحت بطرف عيني يدها تمتد لتعبث بشعره ، اوقعتُ علبة العصير الذي كنتُ اشربه دون إدراك مني ، جعلهما الصوت المفاجأ يستديران ناحيتي ، إلتقتُ العلبة بإرتباك و عدتُ أحدق للأمام .
مررت أصابعها بين خصلات شعره الأسود و أخذت تربت بهدوء ، ثم ما لبثت الفتاة الآخرى بأن قامت بالشيء ذاته وهي تقول بإنبهار :
- يا إلهي ! شعره ناعم للغاية ! و كأنني أداعب شعر قطة ..
- أخفضي صوتك كانا-تشان ، فقد توقظينه
..سعلتُ بعد أن علقت لقمة في فمي ، و أخذتُ أكافح للمحافظة على هدوئي ، فكلما سمعتهما يتفوهان بشيء عنه ، يزداد نبض قلبي و تتصب جبهتي عرقاً يبدو أنه كان من الأفضل أن لا أبقى هنا …
إخترق مسامعنا صوت الجرس معلناً عن إنتهاء فترة الإستراحه
- علينا إيقاظ إيزايا-كن !
أسرعت زميلتي بهزه بلطف لكي يستيقظ ، فتح عينيه الحمراوين بتثاقل و رفع رأسه على حضنها وهو يتثائب بإرهاق ، قال وهو يجيل نظره :
- هل إنتهت الاستراحه ؟ هذا مؤسف
..قالت الفتاة التي تدعى كانا بنبرة مداعبة :-كفاك نوماً ايها الكسول ، و اسرع قبل ان تفوتك الحصة القادمة !
ثم وقفت الفتاتان و همتا بالمغادرة ، ولكن إيزايا لم يتحرك من مكانه وبقي جالساً على الأرض ، نظرتا إليه بإستغراب ، فإبتسم بتكلف و هو يمد يده بإتجاهي ثم فاجأني بأن أمسك برسغي وهو يقول موجها كلامه إليهما :
- أنا لم أحض بكفايتي من النوم ، سأغفو ثانياً، لا تقلقا بشأني ، ستعتني يوريكو-تشان بي
.إتسعت عيناي دهشة حين سمعته يذكر إسمي ،و كذلك بالنسبة للفتاتين ، اسرعت زميلتي في الصف بالقول :
- لكن أنا و ماميشيبا- سان لدينا درس الإحصاء الآن ..
- اوه ! و لكن لا عليك إنها لن تذهب ..
قال ذلك جازماً و هو يلوح لهما وهما تبتعدان و الدهشة تعلوا وجهيهما إنفجرت فور مغادرتهما و قلت له مستنكرة ما قام به :
-كيف تقرر ما يجب علي فعله ؟ و من أخبرك أنني أريد البقاء للعناية بك ؟
شددتُ على جملتي الآخيرة لأجعله يفهم أنني لست جليسة أطفال !إنفجر ضاحكا ، وتركني وسط دهشتي و إنفعالي ثم توقف عن الضحك و قال وهو ينظر إليّ بعينيه البراقتين :
- لكنني فعلتُ هذا من أجلك يوريكو-تشان !
-مالذي تعنيه ؟
فوجأت به يسحبني من فوق الكرسي الخشبي و يجبرني على الإستلقاء بقربه ،لم أستطع الإتيان بأي حركه لشدة صدمتي ، كنا مستلقيان على الأرض ، نظرتُ إليه مستفهمه و أنا أشعر بدقات قلبي تزداد تسارعاً ، وضع ذراعه تحت رأسي لكي أستند إليه و قال وهو يحدق في عيني مباشرة :
- لإنكِ شعرت بالغيرة منهما …
شعرتُ بالدماء الدافئة تصعد إلى وجنتي اللتان اصبحتا بلا ريب حمراوتان كلون الشفق ، هززت رأسي بإستنكار وقلت : -أنت مخطأ ولم أشعر بهذا ؟ثم أنك كنت تغط في النوم أم انك كنت تتظاهر ؟
- آه كلا.. كنت نائماً بالفعل و لكنني حين استيقظت كان وجهك اول ما وقعت عليه عيناي وقد استطعت قرآءته بسهولة ..
إبتسم بتكلف قبل أن يضيف :- كما أن إيركا-تشان و كانا-تشان كثيرتا الحديث و العبث بشعري ..
- حقاً ؟ ولكنك بدوت مستمتعاً كثيرا بذلك و سمحت لهما بفعل هذا !
إتسعت عيناه ، و أدركت ما تفوهت به فأدرتُ عيني بسرعة ، وصل إلى صوت ضحكته الساخرة وهو يقول : - أنت تغارين بالفعل ! كم هذا لطيف !
-أص..مت .. أيـ..
تعلثمت الكلمات على شفتي و انا احاول أن أخفي حرجي منه ، فجأة أغمض عينيه و قرب رأسه مني ، تصاعدت وتيره تنفسي وانا اشعر بأنفاسه تلفح وجهي ، قال بصوت أقرب للهمس :
- لنغفو معاً …
أطلقتُ تنهيدة طويلة و أنا أحدق به ، كان شعره الاسود يتحرك مع الرياح الربيعية ، مددتُ يداً و مررتها بلطف ، حقاً … إن شعره ناعم للغاية ، لم أتوقع أن يكون ملمسه هكذا ، إبتسمتُ رغماً عني و هممت بإغماض عينيّ ، إيزايا الغافي بجانبي ، كم شعرت بالإرتياح و أنا أحدق به ، صحيح أنه يدعي حبه للبشر جميعاً و انه لا يمكن أن يكون ملكاً لأحد منهم و لكنني في تلك اللحظة شعرت بأنني أمتلكه و لو لفترة قصيرة جداً ..
ألقيت نظرة اخيرة على سماء نيسان المزركشة بالغيوم ثم إستسلمت للنوم
- لنبق هكذا ….
